في وسط شارع High Holborn وسط لندن المكتظ بالسائحين و الساكنين والمتاجر المتنوعة الراقية كنت اسير حيث تعودت على استكشاف لندن بشكل عشوائي بين فروعها و شوارعها الجميلة الراقية والتي تحمل تاريخ طويل من التراث والاحداث وغيرها، واثناء مسيري قررت ان ادخل احد الفروع الضيقة التي لم اتوقع انها تؤدي الى شيء اجمل.
دخلت في شارع Great Turnstile الضيق والذي ادى بي الى حديقة جميلة منظمة راقية اسمها Lincolin’s inn fields والتي يصعب تجاوزها دون الجلوس فيها في جو مشمس ورائع جدا، هناك شاهدت ما لم افكر او انتبه له، هو اهمية الحدائق المنظمة في اماكن مكتظة.
فقد كان في هذه الحديقة الجميلة الهادئة جدا عدد كبير من الموظفين و السائحين و الساكنين و الباحثين عن الراحة من سير طويل في وسط زحمة لندن، لم يكن فيها ضجيج غير اصوات الجالسين و التي لم تكن مزعجة بل كانت تشجع على الجلوس، وقد كان البعض من الجالسين يتناولون الغداء او التحلية والبعض الاخر يتأمل او في حوار مع اصدقائه، هنا كانت الاجواء ايجابية جميلة هادئة نوعا ما تجعل الانسان يجمع قواه الايجابية و النفسية لينطلق بعد ساعة او اقل نحو العمل او لاكمال جدوله السياحي كما افعل.
اثناء جلوسي تذكرت حديقة Ravenscourt Park قرب منزلي والتي تجولت فيها كثيرا قبل الذهاب الى العمل او بعده حيث تتوسطها بركة مياه تحولت الى محمية طبيعية تعيش و تتكاثر فيها الحيوانات بانواعها وفيها تشكيلة و اسعة من النباتات و الاشجار و الزهور حيث ينسى الزائر الكثير من همومه و انزعاجاته، وكنت اعتبرها كمحطة لغسيل الهموم او التوتر فكلما دخلتها نسيت هموم الاخبار السياسية او ارتفعت طاقتي الايجابية للدخول الى العمل، وكم كانت مناظرها ساحرة حيث سكة القطار المعلقة فوقها وبركتها الجميلة و حيواناتها ومساحاتها الخضراء الشاسعة والتي تؤدي الى كافيه Rafaello الذي تنتهي فيه جولتي بشرب القهوة او تكون بعد اكمال القهوة نحو الحديقة.
ولا انسى ذكر Regent park الذي يسحر الناظرين بل قد يتفوق بشكل او باخر على الجميع لجماله منظره وسحره الرائع وتميزه بحدائق الزهور الغناء التي تدخل الزائر في عالم القصص والروايات فلا يخرج منها الا و قد تنظمت طاقاته و فكره و نفسيته.
ما اود قوله ان انتشار الحدائق الهادئة و الرائدة و الجميلة في وسط لندن له اثر كبير في رفع مستوى الفكر و الايجابية و التنظيم النفسي و الفكري فلا تجد فيها غير مساحات واسعة للتامل و التفكير و الخروج بطاقة جديدة، وهذا ما ينقصنا في العراق او الدول العربية الاخرى حيث لا نؤمن بالمساحات الخضراء وان وجدت فتتحول الى ساحات لكرة القدم و او للغناء و العزف وغيرها من مسببات الضجيج، فثقافة المساحات الخضراء ثقافة مهمة ومؤثرة ويصل تاثيرها الى تاثير المكتبات وهذا ما شعرت به، فالمكتبة تجد فيه العلم و الحدائق الغناء تجد فيها الراحة الفكرية و النفسية و الطاقة الايجابية، وكلاهما يكملان بعض، فلا يمكن ان تخرج من المكتبة وانت مليء بالافكار الى عشوائية او اكتظاظ فستشعر بصدمة قد تفقدك ما جمعت بل تحتاج الى مساحة حيث يعيد الدماغ خزن و فهم و تحليل ما اكتسبت من معلومات او حتى من جهد عمل في المؤسسة، ففي المؤسسات انت تفكر لتنتج وتحتاج الى راحة فكرية نفسية لكي تستمر بالانتاجية وهذا الامر لم اره بشكل فعلي الا في Chiswick Business Park حيث تم دمج الشركات و الاعمال مع الطبيعة والشلالات والبرك لتصبح واحة خضراء كبيرة ومركز تجمع واسع للتفكير و الانتاجية الابداعية، وقد كنت من رواد هذا المكان الذي جعلني شخصيا اتقدم كثيرا في ما كنت اسعى له من علم و تطوير ذاتي في عملي.
خلال سنوات عيشي في لندن لم اترك حديقة الا وزرتها وفي كل زيارة اجد فيها ما يسر الناظرين ويفاجئهم بشكل لا يمكن ذكره في مقال فالطاووس الذي يسير بين الزائرين والحدائق اليابانية و قطعان الغزلان وغيرها الكثير من العناصر التي ميزت حديقة على اخرى، لكن جميعها كانت تهدف الى تحقيق امر واحد وهو “اعادة تنظيم الحالة الفكرية و النفسية ورفع الطاقة الايجابية” وهو مانفتقده ولا نشعر فيه لاننا لم نجرب او نفهم او نعلم بوجود هذا التاثير وان فهمناه لم نمارسه بشكل مستمر لنشعر بالتاثير، بل تعاملنا مع ثقافة الحدائق بشكل سطحي.
اتمنى من خلال كتابتي لهذه الاسطر المتواضعة ان تصل فكرة واهمية توفير حدائق خضراء صغيرة او كبيرة متنوعة غنية او بسيطة لكن الاهم هادئة لتجعل النفسيات منظمة والمجتمع ايجابي.